ها قد عدتُ أخيراً إلى الهند، البلد الذي عشت فيه أجمل سنوات عمري.. وما زال السفر إليه يشدّني بقوة..
أقف مشدوهاً أمام لوحة في معرض من الصور والتماثيل والرسوم المعقدة يقام بمناسبة دينية عند الهندوس هي مناسبة (الدوشارا) ذكرى انتصار (راما) على (راوان) ملك لانكا، كما روتها ملحمة الراميانا الجميلة.. وقربي يقف رجل كهل كان يتأمل اللوحة بعمق كانت لوحة ساحرة فعلاً تمثل شجرة البشرية، وقد عُبّر عنها بشخص متقدم في السنّ له أيدٍ كثيرة وخيالات ترتبط برأسه تبدو متقنة في رسمها..
-أترين كم هي جميلة يا لينا؟
-فعلاً تبدو معبّرة عن الإنسان بطموحاته وخيالاته.. بأحلامه وكوابيسه..
-لنتابع جولتنا، توجد صور أخرى هامة أيضاً.
أتابع وزوجتي الجولة في المعرض.. نقف أمام مشهد من (المهاباراتا) يمثله ممثلون شبان طلوا وجوههم بالأبيض والأخضر.. يشرعون حرابهم وأقواسهم في لقطة جامدة بلا حركة.. كأنها لوحة مجسّمة لآل (باندو) بصحبة كريشنا..
-الوقوف هكذا ليس سهلاً..
-بالطبع يا لينا، ولكنهم يمارسون اليوغا وقد اعتادوا على القيام بمثل هذه الأعمال
-انظر إلى (شجرة البشرية) اللوحة المدهشة، ذلك الرجل ما زال يقف أمامها محدّقاً مذهولاً
-مضى عليه أكثر من ربع ساعة.. يبدو غريباً عن هذه البلاد
فكرت: ((ترى ما الذي توحي له هذه الصورة، حتى غرق في خيالاته معها إلى هذا الحد؟))
أيقظتني لينا من شرودي: ((لقد تعبت.. سنعود غداً إن سمح لنا الوقت))
نستقلُّ (سكوترا) في طريقنا إلى الفندق، همست لي:
-هذا أول يوم نقضيه في الهند، يجب علينا أن لا نضيّع الوقت دون أن نستثمره جيداً، ونحن في بلد الأساطير.
بعد الاستحمام، جلست على طرف الكنبة أقلّب إحدى المجلاّت المصوّرة كانت لينا منشغلة بكّي بعض الثياب..
غفوت قليلاً وقد استبدّ بي خدرٌ لذيذ وأنا أُحلّق بخيالاتي في المعرض.. صحوت على يدها تشدّني: -انهض.. حان وقت العشاء
وأنا أرتدي ثيابي سمعت صراخها:
-تعال إلى هنا.. عجّل
-ما الذي حدث؟
-انظر إلى هذا الرجل الذي يجري المذيع حواراً معه، أليس هو الرجل الذي لفت نظرك في المعرض اليوم؟
-فعلاً.. يبدو أنه شخصيّة هامة
-كتبوا اسمه.. إنه الدكتور (ماهر الضامن) عربي.. ترى ماذا يفعل الرجل هنا؟
تابعت بعض الحوار على الشاشة الصغيرة، كان الدكتور ماهر يتحدّث الإنكليزية بطلاقة.. ويحكي عن قدرات الإنسان الخارقة، وبعض التجارب التي أجراها في هذا الاتجاه..
هبطنا مطعم الفندق للعشاء، وبين من كانوا يتناولون العشاء، كان الدكتور ماهر الضامن، إنه في نفس الفندق إذن؟ همست:
-يبدو وحيداً.. هي فرصة لنتعارف
-ما رأيك لو دعوته بعد العشاء لفنجان من القهوة التركية؟
-فكرة معقولة
كنت ملهوفاً وقد رأيته أنهى طعامه، أن أتجه إليه، وأبدأ الحديث معه، قابلني بابتسامة ودعاني للجلوس إلى طاولته، فاعتذرت بأنني لست وحيداً وأنني وزوجتي نزورُ الهند، لبعض الوقت وعرفته على اختصاصي العلمي.
-أنا أحضر مؤتمراً علميّاً عن طبّ النفس والخوارق.. والهند محطّة هامة في حياتي.
-وأنا درست فيها أيضاً لسنوات، وأشعر نحوها برابطة ساحرة تشدّني إليها باستمرار .
-تلك المرأة هناك هي زوجتك؟.
-نعم.. ونتمنى أن تشاركنا في تناول القهوة التركية!
كان الدكتور (ماهر) يزور الهند بدعوة رسمية من جامعة (جواهر لال نهرو) للمشاركة في مؤتمر (طب النفس والخوارق) وقد اشتغل فرصة وجوده في الهند، وهو عالم نفس مشهور بأبحاثه فجال في الهند في المناطق التي تمارس فيها اليوغا، والتقى مع أناس مشهورين بقدراتهم الخارقة:
سألته وأنا أستمع لحديثه بعمق:
-وما الذي شدّك في ذلك المعرض إلى تلك الصورة التي تمثل كهلاً كأنه شجرة متفرّعة؟
-لو كنت تهتم بأسرار النفس البشرية، لعرفت أن الصورة تعبّر عن اتساع العقل البشري وآفاقه الكونيّة، إنها مصورة بطريقة مدروسة تدهش المتعمّق في دراسة النفس البشرية.
-اسمع يا سيدي، منذ زمن طويل وأنا أهتم بالبحوث عن الخوارق وأسرار الدماغ، ولكن خيالي ليس جامحاً إلى الحدّ الذي ينقلني إلى عوالم خرافيّة.
ابتسم وأطرق للحظات قبل أن يرفع رأسه وهو يحدجني بعينيه النفاذتين:
-لو تعرّفت على أسرار عوالمنا الداخلية، لأيقنت أن قوانا المجهولة خرافيّة بطاقتها الكامنة.
-أحاول أن أفهمك.
-يبدو الحديث غريباً عليك؟
-ليس إلى هذه الدرجة يا دكتور.. أرجو أن لا تفهمني بشكل مغاير لما أنا عليه.. آه يا سيدي.. ربما كان انغماسنا بمشاكل العصر الماديّة، قد طغى على الجانب الآخر من